كل صباح، العاشرة والنصف قبل أن تجد شمس المطار طريقها إليه، تصل الطائرة، صرنا نقول عنها الطائرة، صار الجميع يفهم أي جحيم معدني طائر نعني، صار الجميع يتحدث عنها بخفوت كأنها ذلك المرض الخبيث الذي لا نجرؤ على التلفظ باسمه، نهمسه همساً، نرسمه بأصابع خرقاء، طائرة الجثامين، لا حاجة لتعريف المعرّف أصلا بدم وأرواح ضائعة وأشلاء، لا حاجة لوضع رقم رحلة أو اسم لآلة بمحركين، صرنا نعرفها، الساحل السوري بأكمله يرقبها بقلب راجف وعينين دامعتين، طائرة الموتى، طائرة العبث، طائرة الموت التقني، كل صباح تهبط طائرة قادمة من شمال ما، عاصمة ما، ريف ما، دمار ما، والأغلب من برّاد حفظ جثث ما، تهبط خفيفة، رشيقة، بمهارة من اعتاد نقل الركاب والحقائب، لكن الركاب هذه المرة خفيفو الوزن، خفيفو الدم ودائما خفيفو الروح.
كل يوم تمنح أجهزة الملاحة وسموت الشاشات المضيئة وأكمام القباطنة الموشاة بشارات ذهبية، الساحلَ الغارق في عتمه جثث خمسين أو أكثر من أبنائه، نهباً للفساد الجمهوري وإرضاءً لفوضى الجهاد. تأتي أكاليل الورد الذابلة، أكاليل مصنوعة على عجل، لا يتم الاعتناء بها إلا اذا كان الجثمان لأحد الأفراد المحظوظين قرباً أو مالاً، أكاليل تفيد بأن الــ 485 ألف كيلومتر (أو ما بقي منها بيد التيه) ممتنة للموت القادم من إحدى مدن الداخل، لكن لا أحد ليقدّم هذا الامتنان، لا أحد بعدما توالت الأرقام وزادت الرؤية قتامة، حتى أن الفرقة النحاسية العسكرية التي كانت تزهو بعزف مقطوعتي الشهيد والوداع، كما يسميها الاعلام الرسمي، باتت لا تأتي إلا اذا طلب الأهل ذلك، تلقي على عجل بضع جمل موسيقية أو قل ضجيجاً غير مفهوم لا تعرف من أي تراث موسيقي مأخوذ ثم ترحل بسرعة كأن هناك من سيحاسبها على جرائمها السمعية.
ثم يأتي ذلك الوقت الذي تنتصب فيه كاميرات التصوير التلفزيوني، ترتفع كتهديد في وجه الأمهات المكلومات، كبنادق أخرى: الى من تهدي استشهاد ابنك، أو: ماذا تقولين لسيد الوطن....؟؟؟
تغمغم الأمهات الخائفات على من تبقى من أبناء بكلام يقول ولا يقول، يعني ولا يعني، تنتزع المذيعة التي تشبه مخبراً رخيصاً بضع جمل تستكمل فيها المجزرة، تعقص شعرها وتمضي لمحاسب المهمات لتقبض الشيك.
ما لا تقوله الأمهات هو الأخطر، ما يسكتن عن التلفظ به، ما يقلنه همساً في غرف ضيقة ومظلمة أو على القبور التي بلا ملامح، ماذا ستقول والدة أُخبرت منذ ساعات أن من أعدّت له بضع دونمات من الزيتون استعداداً لعرسه المقبل في الخريف مسجى في صندوق خشبي، بلا قصة تخبر كيف مات، بلا حكاية ترويها لنفسها أو لأطفاله فيما بعد، بلا ترف أن تراه لمرة أخيرة لتعرف موضع الطلقة القاتلة حتى، أتقول إن وجهه أثمن من وطن لا تملك فيه خيار الحياة او الموت، من ستلعن حين تصلي؟ من ستسامح؟ ثم ماذا يعني موت طفلها لسيد الوطن، هل سيبكي بكاءً يساوي الدمامل في قدميه أو يماثل رائحة عرقه؟ أليس سيد الوطن ورافع رايته في المحافل الدولية من قال إنها مؤامرة كونية على البلاد ....هي مؤامرة إذن.
الموت فقط، رائحة الموت إذا أردنا الدقة، رائحة الموت التي تزحف كضباب شفيف من مدخل الطائرة وترقد، ككلب مطمئن، قربنا، على مقاعد سيارات نقل الجثث، هذا ما يجب أن يرسم على العلم السوري، هذا ما يجب إرضاعه للمواليد الجدد، ما يجب أن يمزج بقهوة الصباح أو بالحليب كامل الدسم، في بلاد فقدت دسمها.
خرجنا من دمشق في رحلة السادسة صباحاً، كنا أول رحلة تخرج من دمشق في ذلك السبت من الندم، بضع مئات من الأمتار أوقفنا حاجز للجيش النظامي ثم صعد أحد الضباط ليخبرنا أنه ومنذ بضع ساعات فقط خُطف خمسون عسكرياً على جسر ضاحية حرستا، أي على مسافة خمسمئة متر أو أقل، قال: تذهبون على مسؤوليتكم، لا نستطيع فعل شيء، قال: هل هناك جنود؟؟ كانوا ثلاثين جندياً وكنا ستة مدنيين، قال: عودوا.. رفض الجنود جميعاً العودة وتتالت الصيحات المجنونة: نقاتل حتى نموت، نطلق رصاصنا حتى نموت، نبتسم حتى نموت، نبكي حتى نموت، كان الموت كلمة اعتيادية تلوكها الأفواه ثم تلقيها كأنها بذرة كرز حامض، خيَّم ظل هذه الكلمة المفزعة في الباص ثقيلاً وقاتماً، حاولت تهدئة نفسي باختراع أسباب مضحكة لعدم الموت، هنا والآن، صرت أقول إنه من المستبعد أن أموت بهذه الطريقة، أنا أستحق ميتة هوميروسية، ميتة تناسب اعتدادي بنفسي، ثمة نبيذ سيُشرب وأحذية ستُبلى وفتيات سيبتسمن، لا أظن أن الموت من الممكن أن يأتي على طريق سريع بين حمص ودمشق، إن كان ينبغي أن أموت فليكن من جرعة زائدة أو من تشمّع الكبد، من سرطان الرئة أو من الغيظ، لا على يد فقراء عاجزين مثلي.
الجنود الثلاثون متقاربو الأعمار، ما الذي دفعهم ليقبلوا موتاً كهذا؟ ما الذي يدافعون عنه؟ أي وطن هذا الذي يدفع بشبان في العشرينات من دهرهم ليستبدلوا قصائد نزار قباني وصور البورنو في محافظهم الصغيرة، بصورة لعلم أو رئيس أو قائد ملتح، ليسوا متحزبين ولا عقائديين، بل أشك أن أحدهم أمسك كتاباً خارج منهاجه المدرسي، ما الذي يدفعهم إذن للموت بهذا الثمن الرديء، في هذا الوطن الرديء ولهذه التعاريف الرديئة؟
وأنا؟؟ والخمسة المدنيون الآخرون الذين لم يُسألوا أصلا إن كانوا يودون الموت في باص على طريق سريع، برصاص قنّاص أو قذيفة آر بي جي، كنا تقريباً مختطفين من قبل هؤلاء الجنود الساعين إلى الموت بابتسامة، كنا نشبه هذه البلاد المختطفة برمتها، بحقولها وآبارها وطيورها وحيواناتها الأليفة، المساقة من قبل حملة السلاح والمال، حملة المخططات والتحالفات، إلى موتها المحتم.
طبعاً، تأجل موتي إلى حين، لكن أشك عندما يتعلق الأمر بالجنود الثلاثين، لا بد أنه ينتظرهم في درب ما، تحت جسر ما، قرب بناء نصف متهدم ما، ينتظرهم ذلك أنهم أرادوه بشدة وسعوا إليه وأقنعتهم حياتهم الأخرى الرخيصة هي الأخرى بأن موتهم قد يساوي شيئاً، ذلك أن الحياة التي تنتظرهم خارج هذا اللباس المرقط وبعيداً عن هذه البندقية ذائعة الصيت، تكاد تشبه أي شيء إلا حياة جميلة، حياة لا ذرة فرح تكسوها، لا زهرة على عرفها وهي تحرن وتبتعد كلما حاولوا الإمساك بها، كفرس شموس، حياة تساوي الصفر، في لب حياتها، اليأس لا القضايا هو ما يدفع هؤلاء المتحاربين إلى الموت، اليأس لا الوطن.
أي نظام يتجرّأ على التلفظ بهذه الكلمة لمواطنيه: لا نستطيع فعل شيء أو: على مسؤوليتكم، أصلاً متى لم تكن الحياة كلها على مسؤوليتنا، متى كانت أصلاً على مسؤولية أحد آخر؟ متى حمل أي رئيس أو ابنه أو حفيده مسؤولية أي شيء؟ الدمار وبتر الأعضاء وبيعها أو حرقها وأكلها، تفخيخ السيارات، إطلاق القذائف على المدارس، المداهمات، الاعتقالات، عاش الشعب السوري أكثر من خمسين عاماً على مسؤوليته فقط، بنى بيوتاً وزرع حواكير وأنجب أطفالاً في الذل والفقر على مسؤوليته والآن يُقتل ويموت في قوارب منخورة وتدمّر أمكنته ويُمحى غده أيضاً على مسؤوليته، نترك لكم أروقة الفساد المقونن وكاميرات التصوير الباسمة والمؤتمرات التي تشبه مؤامرات، الثقة بالنفس والضحكة الغريبة في المقابلات الصحافية والتصريحات الجوفاء، نترك لكم الشواطئ لتبيعوها للحلفاء المفترسين، النفط والغاز والأرواح والدم المتدفق جداول، في ساحات المعارك المدبرة أصلا، نتركها ونموت على مسؤوليتنا.
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين جدلية و "السفير" ]